في تحرك غير متوقع قام الرئيس و مؤسس دولة الزيمبابوي روبرت موغابي البالغ من العمر ثلاث و تسعين سنة بإرسال رسالة إلى رئيس البرلمان يعلن فيها عن تنحيه عن الرئاسة بعد 37 سنة من الحكم , و جاء هذا بعد سلسلة من الأحداث المتتالية قادها الجيش الزيمبابوي بعد ظهور بوادر لإفساح مجال الحكم لزوجته بإبعاد نائبه و محاولته لإقالة قائد الجيش , هذا الأخير سرَّع من ضرورة تحرُّك الجيش لمواجهة نقل الحكم إلى زوجة موغابي التي تصغره بأربعين عاماً , هذا إن لم يكن هو بذاته مرشحاً للحكم بعمر 93 سنة !! حيث أنه لم يظهر أي نية للتنازل عن السلطة , و صاحب تحرُّك الجيش ضغط شعبي رهيب أمام المقرات الحكومية مطالبة الرئيس موغابي بالتنحي من السلطة .
مباشرة بعد إعلان الإستقالة خرج الملايين من المواطنين الزيمبابويين إلى الشوارع يرقصون فرحا بهذا الحدث التاريخي و هم نفسهم مشاركين في صناعته بعد ضغطهم بمساعدة الجيش على المقرات الحكومية الرسمية , و سمح الجيش الزيمبابوي بهذه التظاهرات لأول مرة في تاريخ البلاد نظراً لأنه تخدم مصالحه التي تكمن في إظهار صورة إيجابية شرعية لهذا الإنقلاب العسكري رقم 87 في القارة الإفريقية . لكن الأمر الذي يجب أن يُطرح هو من الذي دفع فعلاً إلى هذا التحرُّك و من دعَّمه و من ضغط على الرئيس الزيمبابوي ليستقيل وهو نفسه الذي إستقال قبل أيام ثم تراجع عن إستقالته متمسكا بالحكم كما كان يفعل منذ عقود و مقاومته للعديد من الإنقلابات , و ذلك كان بعد قرار عزله من رئاسة الحزب الحاكم و مطالبته بالإستقالة من قبل أعضاء الحزب , ثم عزله من الرئاسة و وضعه تحت الإقامة الجبرية , هناك أرسل رسالة عاجلة إلى صديقه رئيس جنوب إفريقيا و أبلغه فيها عن أنه تحت الإقامة الجبرية هو وعائلته . لكن هل فعلاً كان هذا تغيير شعبي كما يراد له أن يظهر ؟؟ أم أنَّ هناك تدخل لطرف آخر يمكن أن يكون إقتصادي أو سياسي أجنبي له قوة تفاوضية أكبر من مصالح الرئيس روبرت موغابي !! ؟؟ .
من الواضح أن دور الشعب الزيمبابوي واضح في فرض صورة تسويقية لما يهدف له الجيش من إخفاء حقيقة الإنقلاب العسكري حتى لا يُعرِّض الزيمبابوي لعقوبات إفريقية و دولية و حتى يظهر أن هذا إنتقال ديموقراطي طبيعي تمَّ برضى الشعب , كذلك قائد الجيش الذي تعجَّل في تحرُّكه لوقف ما يسميه هو بعملية إيقاف المجرمين المحيطين بالرئيس حقيقةً لم يكن تحركه إلاَّ بعد مرور أخبار تتكلم عن إحتمالية عزل قائد الجيش المعارض الأقوى لنقل الحكم لزوجة الرئيس , التي تقوَّت بقبضتها الحديديَّة على مجموعة مهمة من رجال المال و الأعمال في الزيمبابوي لتُجهِّز لنفسها تاج الحُكم .
من الوهلة الأولى يبدو أنَّ هذا التصارع الداخلي على الحكم " من داخل النظام " تصارع غبي من الجانب الشخصي لأن المتفوق فيه سيواجه ضغطا أسطورياًّ أمام أكبر تضخم مالي في العالم و في نفس الوقت سيواجه ضغوط غير مسبوقة من قبل رجال المال و الأعمال المحليين و العالميين , لكن هذا فقط إن كنا نتحدث عن نزاهة الحكام المستقبليين فهم في حقيقة الأمر لا يبحثون سوى عن مصالحهم كما جرت العادة . و هنا يجدر بنا القول أنَّ الدافع الحقيقي لهذا التغيير المفاجىء في الساحة السياسية الزيمبابوية و التي أضحت بين ليلة و ضحاها حديث المختصين في العالم بعد سقوط أحد أكبر الرؤساء في العالم و أحد أبرز المعارضين للإمبريالية و الغرب عموماً , هو العامل الإقتصادي الذي يتمثل بوضوح في الإستثمارات الصينية الكبرى في المنطقة .
قد يقول البعض أن الصين لا تتدخل في الشؤون السياسية للدول و لا يعنيها أي شيء سوى المصالح الإقتصادية و تحقيق أكبر سيطرة على الأسواق , و هي بفضل هذه الإستراتيجية تحوز على ثقة مُتعاطفة للملايين من شعوب العالم الثالث التي تأبى الرضوخ أمام الإمبريالية , حيث أن الإستثمارات الغربية تأتي لتضغط على الدول الضعيفة من كل الجوانب الممكنة , هذا ما يوصم للصين ميزة تنافسية إضافية حتى لو كانت مجرد عامل نفسي فقط . لكن لا يمكن أن تكون الإستثمارات الصينية هذه المرة بريئة من تدخلها الواضح و الخفي في الوقت ذاته في الشؤون السياسية الزيمبابوية .
يظهر ذلك أوَّلاً في الزيارة التطمينية التي قام بها قائد الجيش إلى الصين قبيل إستقالة الرئيس موغابي , حيث بعث برسالة يطمئن فيها رجال الأعمال الصينيين إلى أن مصالحهم الإقتصادية لن تتعرَّض لسوء , بل أثنى على دور الصين في تطوير و دفع عجلة النمو الإقتصادي في المنطقة بإعتبارها القوة الإقتصادية الأولى في إفريقيا الجنوبية و خصوصا " زامبيا و زيمبابوي " . وهذا لأن الصين لم تخفي إنزعاجها من هذه التحركات التي قد تمنح فرصة إقتصادية ذهبية للشركات البريطانية و التي تُركز مصالحها على مراقبة الوضع بدقة و عن كثب و محاولة الضغط في نقاط مفصلية للسماح بفتح أسواق الزيمبابوي أمام المؤسسات البريطانية و قد تتمكن من جراء ذلك الشركات الفرنسية و الأمريكية من ولوج السوق الإفريقية الجنوبية التي هي الآن محتكرة من قبل الصين .
الأمر ذاته يزعج جنوب إفريقيا و هي العامل السياسي المتدخل في الموضوع , حيث أنها معروفة منذ القدم بشخصيتها الكاريزماتية في إدارة أزمات إفريقيا برفقة كل من الدول الكبرى في القارة " الجزائر و مصر و نيجيريا و غانا " , حيث أن التدخلات الأجنبية سيُفقد دور جنوب إفريقيا مكانته هناك و سيجعل قوتها التفاوضية ضعيفة أمام الجميع سياسياًّ و إقتصادياًّ كما ستكون محاصرة نوعا ما بسلسلة توغلات لنفوذ أجنبي معادي لمصالح جنوب إفريقيا , و يظهر هذا بوضوح في إعلان رئيس جنوب إفريقيا عن حجز الرئيس روبرت موغابي من قبل الجيش ووضعه تحت الإقامة الجبرية هو وعائلته , و حاول في الوقت ذاته إيقاظ الأطراف الدولية خصوصا الإتحاد الاوروبي للتدخل للضغط على الأطراف الإنقلابية من أجل بقاء حليفها هناك .
لكن يبدو أنَّ جنوب إفريقيا قد إتخذت سبيلاً غبياًّ نوعاً ما لأنها راهنت على طرف ضعيف للغاية لا يقوى حتى على مواجهة تنامي نفوذ زوجته , فما بالك بالنفوذ الإقتصادي الصيني و الاوروبي و الأمريكي .... و غيرهم من الأطراف المعادية لجنوب إفريقيا , كما خسرت أيضا طرفا مهما و هو الشعب الزيمبابوي و جيشه و الذان يبدو أنهما سيكونان العامل المحدد للحاكم المقبل للزيمبابوي , وهذا سيقلل من شأن جنوب إفريقيا سياسياًّ في المنطقة , كما أنَّ كلمتها في الإتحاد الإفريقي ستضعف كثيراً و قد تفقد المزيد من الحلفاء جرَّاء هذا التدخل الذي لم يكن في محله ولا في وقته . عكس الصمت و الحياد التي لزمته الجزائر و دول أخرى بالإكتفاء بدعوة الجهات الزيمبابوية المسؤولةعن الحدث إلى العمل بكل ما هو ممكن للحفاظ على الأمن و الإستقرار في الزيمبابوي و عدم تكرار سيناريوهات الإنقلابات العسكرية الدامية مثلما حدث مؤخرا في إفريقيا الوسطى تحت مرأى ومسمع زعماء الإتحاد الإفريقي , الذي سيكون في إمتحان عسير أمام هذه الأزمة الجديدة و الذي سيتحدد من خلاله مدى فعاليته و قوته على ارض الواقع و سيحدد كذلك دوره الحقيقي في تحقيق السلام و الإستقرار في القارة الإفريقية بالموازاة مع الحفاظ على حقوق الشعوب و عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول .
0 Comentair:
Post a Comment